السوريون في الشتات.. نجاح فردي وضعف جماعي!
السوريون في الشتات.. نجاح فردي وضعف جماعي!
تغيب الإحصاءات المدققة حول الانتشار السوري ما بين الداخل وبلدان الشتات، التي يقال إن عددها وصل إلى نحو 130 دولة في قارات العالم الخمس. ولأن الإحصاءات العامة المدققة غائبة، فإنَّ التقديرات هي الأكثر حضوراً، لكن الرجوع إليها يحتاج إلى مستوى من التدقيق والمقارنة وخروج من نفق الاستخدام السياسي الدارج في واقع الصراع بسوريا وعليها.
تميل أكثر التقديرات شيوعاً إلى قول إن أكثر من نصف سكان سوريا غادروها، وهذا تقدير مقبول في محصلة صراع تجاوز 13 عاماً، وترك بصمات كارثية في حياة السوريين الإنسانية والمادية وفي مختلف مجالاتها وأنشطتها، وتدعم وقائع الوجود السوري الكثيف في بلدان الجوار التقدير الرائج للسوريين في الشتات، إذ يقدر عددهم في بلدان الجوار بأكثر من 6 ملايين نسمة منهم نحو 4 ملايين في تركيا وحدها، وتضم الحلقة الثانية من الجوار السوري، التي تشمل دول الخليج وشمال إفريقيا أكثر من 4 ملايين نسمة، وينتشر حوالي 5 ملايين في عشرات الدول، بينها دول غرب أوروبا، التي يتجاوز السوريون فيها مليون نسمة.
ويدلل الخروج السوري الكثيف من بؤرة الموت والدمار الشامل، في أحد جوانبه، على قدرة السوريين في التغلب على ظروف الصراع بعد أن فشلوا في حسمه لصالح مطالبهم بالحرية والعدالة والمساواة والحياة الأفضل لكل السوريين، وسط تقاعس المجتمع الدولي عن مساعدتهم في التغيير.
واخترق الحشد الواسع في طريق الشتات الحدود والإجراءات المانعة للانتقال الحر حسب القانون الدولي، وتحايل على الإجراءات في بعض الأحيان، وقدَّم أثماناً إنسانيةً كبيرةً، مات وفقد خلالها عشرات الآلاف منهم في مياه البحار، وآخرون عبر الحدود نتيجة ممارسات عصابات إجرامية، وانتهاكات ارتكبتها أجهزة رسمية في الطرق إلى الشتات، ليصيروا لاجئين أو مقيمين.
ورغم أن اللاجئين السوريين تعرضوا لقيود قانونية وإدارية في بلدان الشتات على نحو ما يحصل عادةً مع لاجئين آخرين، وقد أخضعت الدول الأوروبية، لا سيما ألمانيا وفرنسا والنمسا، اللاجئين إلى نظام الاندماج عبر تعلم اللغة للسير نحو التعليم والانخراط في سوق العمل، فإن الدول الأخرى انقسمت ما بين حركة مقيدة، كما في لبنان، وإلى حرية حركة أوسع، كما في تركيا والأردن ومصر، وقد تفاوتت بينها مساحة حركة السوريين في مراحل مختلفة.
وبطبيعة الحال، فقد نجح الشباب وصغار السن في تعلم اللغات في البلدان الأوروبية، وانفتحت أمامهم الأبواب نحو التعليم العام والتخصصي، والانخراط في سوق العمل، مما شكَّل بداية نجاح وتميز لبعض السوريين في تلك البلدان.
وهناك، كما في بلدان أخرى، أضاف جزءٌ من السوريين نجاحات التعليم إلى التوجه لبدء مشروعات عملهم الخاص، التي ظهرت فيه ثلاثة أنواع من المشروعات: شركات استثمارية وتجارية من الأولى الصناعات النسيجية في مصر وشركات الصرافة وتحويل الأموال في تركيا، ومن الثانية تجارة المواد الغذائية وتجارة السيارات في أغلب البلدان، والنوع الثاني العمل في قطاع الخدمات، منها المطاعم والمخابز ومؤسسات التعليم العربي، التي غدت بين أهم مظاهر الوجود السوري في بلدان أوروبا والبلاد العربية وتركيا، والنوع الثالث من نشاطات السوريين يمتد في قطاع الخدمات الحرفية، التي تعددت مجالاتها ومستوياتها من المشاريع الكبيرة إلى المشاريع الفردية، وهذه النشاطات موجودة في أغلب بلدان الشتات في ضوء الحاجة والإمكانية. ولا يحتاج إلى تأكيد أن ما تقدم يمثل نجاحاً عاماً للسوريين في بلدان الشتات، لكنه يقوم أساساً على المبادرة الفردية وعلى جهد شخصي في التعليم والعمل والاستثمار،
وغالباً فإن الفردية بما تعنيه من خبرة وتوفر إمكانات واستعدادات عالية للعمل والمتابعة، وحشد وتنظيم كل العوامل الإيجابية الداعمة، تمثل أسباب النجاح، وأغلبها عوامل لا تتوفر في مشاريع العمل الجماعي والمشترك عند السوريين، خصوصاً لجهة افتقادهم لروح وخبرات، بل وحتى فوائد العمل الجماعي والمشترك.
إن الوقائع المحيطة بوجود السوريين ونشاطاتهم في بلدان الشتات، تكشف ضعفاً وتردياً، وصولاً إلى فشل المشاريع الجماعية والمشتركة، والأمر في هذا لا يصيب فقط المشاريع ذات الطابع الاقتصادي - الاستثماري، بل يشمل المشاريع الثقافية والاجتماعية، وصولاً إلى المشاريع السياسية، وقد نشط السوريون في سنوات العقد الماضية في عشرات المبادرات في هذه المجالات، لكنها لم تحقق النجاح المأمول، وما حافظ على استمراره منها مصاب بأمراض لا شفاء لها، وأبرز الأمثلة في الجماعات السياسية، ينطبق على «الائتلاف الوطني»، القوة الرئيسية للمعارضة في الشتات، كما ينطبق على تنظيمات المجتمع المدني وتحالفاتها الحاضرة في أغلب تجمعات الشتات.
وسط تعقيد في الأوضاع وتناقض مسارات ونتائج عمل السوريين في الشتات، تتأكد الحاجة إلى ضرورة التدقيق في المشاريع الجماعية والمشتركة، ودراسة سبل نجاحها، وتبديل سياقات العمل فيها، ليس لأن ذلك ضرورة من أجل خدمة السوريين وقضيتهم وبلدهم فقط، بل لأنه أيضاً السبيل من أجل الإبقاء على النجاحات الفردية التي تحققت، وضمان استمرارها وتصاعدها، وتعزيز حضور السوريين ومستقبل دورهم في المجتمعات التي باتوا جزءاً منها.
*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط